لقد أخذت ظاهرة التعبد في الجزائر تَذْهلُ وتَنْسَى بِقُوةٍ الشُّعُورَ بضرورة الالتزام بالمذهب المالكي، الظاهرة تتوسع يوما فيوما؛ بدعوى التعبد وفق الكتاب والسنة ؛ رغم ما في هذا القول من مغالطة لا تخفى على أهل العلم والمتخصصين في الفقه الإسلامي وأصوله؛ إذ أن كلّ مذاهب الفقه الإسلامي السنية التي استمرت إلى اليوم في العالم الإسلامي وهي : المذهب الحنفي والمذهب المالكي والمذهب الشافعي والمذهب الحنبلي، جميعها مذاهب سنية، كلّ حكم شرعي فيها من أحكام المكلفين له أدلته الشرعية المستنبطة من أدلة التشريع الإسلامي وعلى رأسها الكتاب والسنة ثم باقي الأدلة الكلية التي تستند لهما .
وكلّ قول يخالف هذه البدهية العلمية لا قيمة ولا وزن له في عرف علماء الإسلام وفقائه عبر تاريخ الإسلام منذ عهد الصحابة الكرام رضي الله عنه قبل ظهور المذاهب الفقهية ، ثم في حياة أئمة المذاهب وعبر مراحل تَأَسُّسِ المذاهب ، ولهذا فإن القول بخلافه لا يخرج عن إحتمالين هما : إما الإيهام أو الانتصار لوجهة جديدة نسبيا في الفقه والفتوى، يرفع أصحابها شعار { الكتاب والسنة } .أومجرد ترديد العوام لهذا الذي مبعثه الجهل بمركز العامي في الفقه الإسلامي ودوره في العمل بأحكامه ؛ إذ هو مقلد لا مجتهد، لعدم أهليته العلمية في علوم الشريعة الإسلامية وتَوَفُّرِهِ على المتطلبات و المؤهلات العلمية اللازمة لاستنباط الاحكام الشرعية من أدلتها ، فضلا عن الإفتاء. وهذه مسائل من بدهيات أصول الفقه الإسلامي .
وفي الالتزام بمذهب من مذاهب السنة الأربعة المذكورة،يقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى [هـ/1879-13 رجب 1393 هـ/12 أغسطس 1973)} شيخُ جامع الزيتونة وصاحب تفسير “التحرير والتنوير” أحد أعظم تفاسير القرآن الكريم في العصر الحديث، وصاحب ” مقاصد الشريعة الإسلامية” من أعظم ماكتب في علم المقاصد، وأحد أبرز مشايخ الإمام عبد الحميد بن باديس في الزيتونة : “وقد عدّها ــــــــــــ أي المذاهب الأربعة ــــــــــــــ المسلمون في الصواب متقاربة، وكان لكل إمام من أئمتها أَتْبَاعٌ من العلماء ، وأنصار منهم يحتجون لمذهبه، بحيث كانت حجتهم متقاربة ، ثم قال كثير من المحققين من الأصوليين والفقهاء إنه يجب على العامي [ غير المتخصص في علوم اضلشرع والفقه مطلقا] إلتزام تقليد مذهب معيّن ؛ لئلا يكون في عَمَايَة وحيرة، ليجري في أعماله على طريقة واحدة؛ فلا يكون متابعا لشهوته؛ لأن الدين جاء لإبطال التشهي والهوى ” .
وهذا الذي قرره العلماء المحققون هو الذي تقرّر؛ وميز الفتوى والعمل عبر التاريخ الإسلامي منذ تأسست المذاهب المذكورة التي كانت متقاربة في الزمن ، وما ترتب على هذا من أن يكون بعضهم تلميذا للآخر{ الشافعي تلميذ مالك، وأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي} والنقاش العلمي المباشر و اللقاء كما هو معروف عن لقاء الإمام مالك بأبي حنيفة النعمان رضي الله عن هؤلاء الأئمة الأعلام .
وقد ترتّب على هذا تَشُكُّلَ سِمَةٍ من أبرز سمات التدين في الحضارة الإسلامية؛ ألا وهي تقليد مذهب فقهي من المذاهب الكبرى التي كتب الله تعالى لها القبول والاستمرار، وصار الحال كما يقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور :”. وقد جرى عمل المسلمين منذ قرون كثيرة على أن المقلد يلتزم إِتِّبَاعَ مذهب معين يجري في أعماله على مقتضاه، وينتسب إليه “.
ومما يترتب على هذا السمة الحضارية المميزة للتدين في تاريخ الإسلام والمسلمين كما يقول الإمام ا بن عاشور أن ” من التزم مذهبا من هذه المذاهب ، فقد إلتزمه ليدين [ ليعبد ] الله به، ولذلك لا يجوز له الخروج عنه؛ لأن الخروج عنه من التلاعب في الدين، والدين يجب أن ينزه عن التلاعب ، وعن شوائب الهوى والتشهي “.
لهذا” فلا يجوز للمقلد الخروج عن المذهب الذي قلده إلا في حالة الاضطرار التي تُفْضي إلى المشقة البالغة الترخيص ، فيجوز له تقليد المذهب الذي فيه تخفيف عليه في تلك الحالة؛ لأن الخروج عن المذهب في هاته الحالة لا يُعدُّ تلاعبا ولا تشهيا ، بل راجعٌ إلى تَطَلِّبِ التيسير لقوله تعالى ” وما جعل عليكم في الدين من حرج”/ الحج : 78
فتاوى الإمام محمد الطاهر بن عاشور، جمع و تحقيق، د. محمد بن إبراهيم بوزغيبة، مركز جمعة الماجد ، دبي ط: 1425 ـــ 2004م ص: 217 ـــــ 218 .
وقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي المجال لخدمة الأفكار والمبادئ والأديان والأراء والمذاهب والاتجاهات ، وصارت من أقوى المؤثرات في التوجيه والسلوك والقول والتفكير بالحق والباطل، بالهدى والضلال، والحمد لله أن العلماء والدعاة والمفكرين والباحثين المسلمين يزداد حضورهم في هذا المجال. وفي مجال الفقه تنتشر قنواتُ ومواقعُ الفقه على نحو ملحوظ ، لكن الغلبة ــــــ حسب الملاحظة البسيطة غير العلمية ــــــ للفقه الذي يعتمد اتجاهات فردية إلى النِّحَلِ الفقهية أقرب منها إلى مذاهب فقية مؤسسة على نحو ما عرف تاريخ الفقه الإسلامي ، وقوة حضور لفقه مذهبي لا يُصَرَّحُ بمذهبه !!!، لكنه يقدم مسنودا بأدلة الكتاب والسنة الشريفة ؛ إيحاء بأنه الفقه الحق!!! .
أما الفقه المالكي فنجد حسب الملاحظة البسيطة غير العلمية أيضا حظه في الحضور في هذا الفضاءات قليل، يتنوع بين تقديم دروس تعليمية مسجدية أو مبادرات علماء فردية، وفتاوى منقولة من برامج تلفزية، ودورات موسمية وهكذا، وهي خير وبركة إن شاء الله ؛ خاصة أن كثيرا منها يقدمه شيوخ راسخون في المذهب المالكي في بلاد المغرب العربي غالبا أمثال : الشيوخ الددو والكملي وموسى إسماعيل والدكتور بويزري والشيخ المغيلي وعبد الله بنطاهر وغيرهم . فضلا عن برامج الإفتاء عبر الإذاعة الوطنية والمحطات الجهوية والإذاعات المحلية التي يقدم فيها الافاضل والأجلاء من شيوخنا وأساتذتنا برامج الإفتاء على المذهب المالكي .
ويجدر بنا التنويه بالإجلال والاحترام والتقدير لما قدمه ويقدمه برنامج {هلاّ سألوا } في قناة القرآن الكريم خلال سنوات يُحِيِهَهَا كل ّمساء كوكبة من شيوخنا وفقهائنا وأساتذتنا جزاهم الله خيرا كثيرا، وكتب لهم دخول الفردوس الأعلى، ورحم الله الشيخ الجليل أبو عبد السلام جعفر أولفقي ، ومتّعَ شيوخنا وأساتذتنا بالصحة والعافية ووفقهم لمواصلة المسيرة النافعة المشوقة والجلسات الدافئة في رحاب الفقه المالكي. كما ننوه ببرنامج الإفتاء الموجه للمراة في قضاياها وفاضلات العالمات والأستاذات، منهن البروفيسور عقيلة حسين وأخواتها المفتيات الفاضلات جزاهن الله خيرا كثيرا وكتب لهن دخول الفردوس الأعلى .
ومن الواجب أيضا هاهنا توجيه أسمى أيات الشكر والتقدير لمنشطي البرنامجين، منهم الأستاذ البشوش المرح اللطيف أحمد طالب أحمد الذي آثر مصاحبة المشايخ في برنامج إفتائي وهو الأستاذ الجامعي، دون أن يذكر مقامه العلمي، والأستاذ الهادئ الوقور محمد الصالح واشم، والشاب الخلوق طه يونس فرصوص، { اعتذر ممن فاتني ذكره } فجزاهم الله خيرا على حسن إدارة البرنامج .
أما فكرة هذا المقال فهي اقتراح تأسيس هيئة أئمة وأساتذة وأستاذات جزائريين وجزائريات راسخين في الفقه المالكي بأدلته . قد تُؤَسّسُ بإشراف مسجد الجزائر ، ترسم استراتيجية محكمة لنشر الفقه المالكي عبر وسائل التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار والإقبال عليها في مجتمعنا، مع التركيز على الشباب .
وأقترح أن تركز الاستراتيجية على خصائص ومواصفات منها :
- تقديم الأحكام مع أدلتها في المذهب .
- تتكون الهيئة من أطراف رئيسة هي : المجلس العلمي للمساهمة وتقديم الملاحظات اللازمة حسب أهداف المشروع ــــــــــــ الشيوخ والأساتذة والأستاذات {الذين يُعِدُّون ويقدمون الدروس والفتاوى } ـــــــــ الهيئة الفنية التي تنتج المادة العلمية وتوزعها عبر الوسائط الاجتماعية {فيديوهات وغيرها }.
- قِصَرُ وقت كل فيديو باحتواء كل واحد مثلا على فرضين أو ثلاثة من فروض الوضوء أو الصلاة : مع ذكر الأدلة عليها بتركيز شديد ـ
- أن تُعرض الأحكام عمليا وفق المذهب المالكي بتقنيات متطورة؛ بأداء نماذج افتراضية باستخدام التكنولوجيات الناشئة لتشكيل لتجسيد من سيمثلون أداء أدوار المكلفين بالعبادات وغيرها . فيما يمكن تمثيله ويُشْرَعُ عَرْضُهُ: أي مع الالتزام التام بأحكام الشرع في الشكل والموضوع والنماذج الافتراضية المُنشَأَةُ باستخدام التكنولوجيات الناشئة كما قلنا.
- يُكتفى بمصاحبة صوت الشيخ أو الإمام أو الأستاذ أو الأستاذة للفعل والحركات المعروضة .
- التركيز الشديد في عرض الأحكام والأدلة دون استطرادات ولا إغراق في خلافات داخل المذهب كما هو سائد في المذاهب الفقية قاطبة .
- تُكْتَب الأدلة باختصار وتركيز، بأسلوب فني مشوق .
- تخصيص فيديوهات للإجابات العلمية عن الأسئلة الفقهية؛ سواء التي ترد في التعليقات أو باستخدام الأسئلة الشائعة حول المسائل الفقهية . وحبذا لو تُخْرُج هذه الفيديوهات بنسقية واحدة مع فيديوهات الدروس .
- ترجمة الفيديويهات للأمازيغية بمختلف لهجاتها الوطنية .
10.تجسيد التنوع الوطني في الفيديوهات من الناحية الشكلية : اللباس الجزائري الأصيل للرجال حسب المناطق ــــــ لباس المرأة الجزائرية المناسب للعبادة حسب تنوع المناطق ـــــ لباس شبابي محترم .
نشير في الختام إلى نقاط :
- أن الالتزام بمذهب فقهي أسلم وأقوم للمسلم؛ لأن المذهب حصيلة جهود علمية تزيد عن عشرة قرون ، بذلها أفذاذ العلماء والمجتهدين . فالذي يلتزم المذهب يشبه المريض الذي يتعاطى دواء أنتجه مخبر علمي كبير موثوق آمن ، خضع للتجارب المعلمية والاختبارات العلمية ، والاعتماد من هيئة الدواء والغذاء الرسمية .
- أن دروس الإفتاء الشائعة في القنوات عربية يفتى مفتوها كلٌّ على المذهب المعتمد رسميا في بلاده ، فعلماء المملكة العربية السعودية مثلا يفتون على المذهب الحنبلي الذي تعتمده الدولة رسميا ، ويروج بعضهم أن هذا هو منهج أهل السنة والجماعة والسلف.
- أن إلتزام المجتمع بالمذهب الذي ساد فيه منذ قرون من أهم أسباب الإنسجام الاجتماعي والسكينة النفسية والعقلية والسوية السلوكية، بل هو من متطلبات الأمن الاجتماعي والاستراتيجي في بعده الديني الاجتماعي؛ فلو تستمر جهود سحق الانتماء المذهبي ، سننتهي إلى حالة ” تدين زبدي”.
- الاحترام الكامل و الشديد للمذهب الإباضي ، وتمتين عُرَى الأخوة الدينية والوطنية ، والتركيز على خاصية الثراء والتنوع المذهبي { المالكي والإباضي } المستقر في الجزائر منذ قرون .
والله الموفق والهادي لما هو خير وأقوم .