حادثة المقبرة : سياسة أم تياسة ؟

د. محمد مراح

مُعلَم وكاتب جزائري أصيل مدينة تبسة .

02/05/2021

تابع الرأي العام مشهد تنمر أو تهجّم  السيد طابو كريم الناشط السياسي  والمناضل السابق في جبهة القوى الاشتراكية ، وزعيم حزب لم يعتمد رسميا بعدُ  ،  على الدكتور بوزيد لزهاري {1953 ــــــ  ……} أستاذ      القانون الدستوري  وخريج جامعة غلاسكو البريطانية الجامعي ، ورئيس المجلس الوطني لحقوق  الإنسان ، و عضو لجنة حقوق الإنسان بجنيف . الواقعة جرت أثناء جنازة السيد يحي عبد النور  {1921 ــــ 2021 }  الشخصية السياسية والمناضل الحقوقي المعروف الذي وافاه  الأجل عن قرن من الزمن. مما ترتّب عنه رفع الدكتور لزهاري دعوى قضائية على السيد كربم طابو ، يتهمه فيها بالسب والشتم والتهديد، ولقي الحدث تداولا واسعا وردود فعل كبيرة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي . وقد مثل البارحة طابو أمام قاضى التحقيق ، الذي أمر بتوقيفه  بتهم التهديد والإهانة ومحاولة الاعتداء، والتحريض على النظام العام .

  أريد في هذا المقال تسجيل الملاحظات  الآتي ذكرها:

1 ـــ   التنمر لا ينسجم مع مقام الفعل؛ بالمعيار الشرعي الإسلامي في المقام الأول؛ لأنه مقام أدق لحظة تفرق  بين الدنيا والآخرة، لذا تفرض هيبتها واحترامها البالغين على جميع الحاضرين. ولذا فكل سلوك ينتهك هذه الخاصية مرفوض ، ومُدان صاحبه.

وبالمعيار الاجتماعي :  مستهجن وغريب، ومحتقر فعله اجتماعيا، ويُصنّف  ضمن انتهاكات العرف الحميد، والاجماع الاجتماعي المتوارث عبر التاريخ الاجتماعي للمجتمع الجزائري.

وهو أيضا عدوان صارخ على أسرة الميت،بعدم مراعاة مشاعر الحزن والفقد، ومع هذا فليس لهم شرعا منع أحد من اتباع جنازة فقيدهم والصلاة عليه . ولو أوصى به، حسب فتوى دار الإفتاء المصرية : {فتوى رقم : 71 ــــــ 5/2005}.

2 ـــ الإطار السياسي الذي يُقدّر فيه هذا السلوك : السؤال هنا : هل نحن أمام ممارسة سياسية أم سلوك يمكن وصفه بالتياسة؟

سلوك السيد كريم طابو يأتي على المستوى النفسي والعاطفي الشخصي، فقد يعدّه رد فعل عما يراه ظلما لحق به ، حين أُودع السجن، ولم تتحرك هيئة حقوق الإنسان التي يرأسها الدكتور بوزيد لزهاري لمساندته . وهنا نسأل : هل المبدأ الحقوقي يقتضى تحرك منظمة حقوقية ما لمساندة متهم ما  بقرينة أو سبب الاتهام فحسب ؟ أم ينظر في تفاصيل تقاضى وإيقاف ومحاكمة مما قد يدعو بعضها للمساندة ؟  عرض تفاصيل ما تعرض له المتنمر باتت معروضة  للرأي العام ، واختلط فيها الواقع بالشائعة والاستثمار السياسي وللأسف الحقوقي في أحيان كثيرة بما يتنافى مع مبدأ ونزاهة الدفاع، أما السياسة فمرتع العفن كما لا يخفى على أحد. وقد ضربنا نحن الجزائريين في أزمتنا الحالية أبشع الصور مدعاة للخجل والسقوط الأخلاقي في أدنى تقدير .

أما إن قدّر المتنمر طابو سلوكه ضمن المعارضة السياسية الشرسة، فوجب التفرقة بين سقفين لممارسة المعارضة السياسية ، هما : ممارسة سياسية توصف بــ {السياسة } وأخرى توصف بـــ {التياسة } .

أما الأولى فلها قواعدها وقيمها وحدودها، وفنونها ، واعتبراتها الظرفية والتاريخية ، والقيمية . فمثلا في واقعة التنمر/ التهجم ما هو المكسب السياسي الذي ربما قدّر طابو تحقيقه؟ أهو تعاطف الرأي العام المكتسح بمشاعر الخيبة وعدم الرضا أوالسخط على السلطة؟ وهو ما يسجل في سيرته السياسية / المُعارضة رصيدا للزعامة السياسية المناظلة ، والمؤهلة مستقبلا للقيادة الوطنية في موقع رفيع في الحكم إن واتت ظروف البلد مثلا .

لنفحص هذا الهدف السلوكي : لقد تجاهل أو غالط صاحبه نفسه، واغتر بلحظة غيض أو غضب أو تعبير عن انتقام ، فأُغلق عليه إدراك الحقائق السياسية والنفسية والقيمية الآتي ذكرها :

أن ما تخيله إجماعا وطنيا في الوضع العام، مناقض لطبيعة الأشياء، إذ أن زوايا المواقف الوطنية متنوعة بل ومختلفة حدّ التناقضات العميقة الجذرية . ولذا فسيُنظر لسلوكه التنمري حسب هذا التوصيف .

هناك مزاج وطني محكوم بقيم المجتمع الأخلاقية والدينية والوطنية، تؤدى دورا حاسما قاطعا في الحكم على سلوك سياسي ما ، فمثلا : ما الانتماء الحزبي والعقيدة السياسية والأيديولوجية، والروابط النفعية ماليا واقتصاديا، والتقاطع مع مصالح قد لا تكون وطنية بالضرورة، فالذي يخلص للغلبة لدى مزاج الرأي العام هو الخلاصة التي تفرزها مناقشات وأدلة وإشاعات تتفاعل عبر الوسائط والفواعل السائدة .

والراجح ان كريم طابو لن يلقى ما يُبهجه ويثري رصيده السياسي على هذا الصعيد الحاسم بحسب لغة التدافع أو المغالبة السياسية .

ومن جهة المكانة السياسية والحزبية، نسأل ما هو أثر تنمره على مستقبل حزبه غير المعتمد قانونيا إلى الآن ؟ قد يحضى بمساندة كاسحة من أتباعه ، لأسباب جُلّها جهوي ، لكن هل يضمن له المستقبل القيادي الحزبي على المستقبل المتوسط أو البعيد ، أعتقد أن حزبه الأم خير يحمل أصوب جواب على السؤال؛ إذ لا يجرؤ هو ولا معجبوه على مقارنته بحزب جبهة القوى الاشتراكية التي تشهد صراعات كثيرة عميقة وحادة منذ وفاة زعيمها التاريخي آيت أحمد . فعند حساب المكاسب والخسائر في ظروف سياسية سليمة ستطغى معايير تقيم  للمسار السياسي للقائد، وهنا الراجح أن طابو سيُنبذ من حزبه ، ويعدونه شخصا غير لائق قياديا نظرا لسوابقه العنيفة المتهورة .

إذن ماذا تبقى لوضع التنمر / الهجوم  تحت السقف المناسب ،  مع استحضار قائمة من سلوكات عديدة ومتكررة من هذا السياسي ؟

هنا نعود إلى {التياسة } المشتقة من سلوك التيس ، وسلوكه الغضبي إذا اشتد به، فتتعطّل  فيه الملكات العليا، من تفكير وتعقل ، وتصرف حكيم كيّس ، فيندفع  نطحا، لا يرعوى،

و لايستجيب لنداء حكيم يأتيه ، ولذا يُنصح في حالة التياسة بمسافة أمان للتجنب غير المحمود العواقب من الفعال .

لقد مارس طابو كريم التياسة نيابة عن السياسة في مواطن كثيرة في خضم الحراك الأصيل والهجين جميعا ، وتعكس حالته السلوكية كما تنقلها الوسائط الإعلامية الاجتماعية حالة من الهياج والغضب ، يستدعيان تقدير الشخصية علميا .

أما وضع الأمر في سياقه السياسي شديد الغموض ، والمُنتظرات المقلقة ، فنسجل  الآتي ذكره : تنمّر طابو و تتيسه السياسي يمكن وضعه ضمن الأحداث  الآتي ذكرها : المسيرات الأسبوعية ضد السلطة ـــــ المسيرات والتصرفات الشاذة والخطيرة التي مارسها قطعان الماك في منطقة القبائل، سواء ضد الأمن ، أو شعارات عنصرية خبيثة طرد العرب  من جزء من النسيج الدغرافي الجزائري ــــ المؤشرات القويّة بقرب تصنيف حركة الماك الانفصالية الإرهابية تنظيما إرهابيا ـــــ مؤشرات إيجابية ولو نسبيا من تحلحل الجمود السياسي والتواصلي بين السلطة والطبقة السياسية ــــ توقع إقبال على الإنتخابات التشريعية ولو بأدنى قدر، ربما بدافع خوف المجتمع من عواقب الإنسداد السياسي والاجتماعي المُهدّد لاستقرار البلاد ــــ عزوف اجتماعي عن الاحتجاج بالطريقة والأسلوب الذي يتخندق طابو وقبيله في خندقه .

إذن هل يمكن فصل التياسة السياسية عن هذه المعطيات ؟ وما مقدار تشابكهما  وتقاطعهما ؟   الإجابات الهادئة الرصينة تحتاج لدور الزمن وأحداثه في إنضاجها ، وتهيئتها للحكم العادل .

كما لا يجوز إغفال معطى سياسي ثقافي تاريخي في هذا الصدد، ومنه التياسة التي شهدنا ، ألا وهو النضال في جبهة سياسية حضارية ، تتعلق بمستقبل البلد ، ألا وهو { كعبة الحرية والأحرار}، فلم يعُد خافيا عن الرأي العام الوطني أن جداول سياسية وحزبية وثقافية وإعلامية تشق سبيلها لتهيئة الأرض الحضارية الجزائرية لتشييد فكرة هذه الكعبة بلبنات جهوية ، ومدد من مقولات وطروحات  من التاريخ الوطني  قريب {ثورة التحرير } ، واحتلاب المخيال الوطني لشوفينية ضيقة  عقيمة .

أخيرا ربما رأي كريم طابو أنه يجوز للسياسي ما لايجوز لغيره، فوجب تنبيهه أنه وقع ضحية وهم خاطئ ساقه للتياسة؛ فالسياسة مهما تعفّنت تُبقى على قدر من المسؤولية السياسية والاجتماعية والتاريخية ، فمصير بلد ومجتمع لا يمكن تسليمه للتياسة في عالم يُعيد صياغة منظوماته وكياناته الكبرى والإقليمية والمحلية .